فصل: الآية رقم ‏(‏ 68 ‏:‏ 70 ‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم ‏(‏ 51 ‏:‏ 53 ‏)‏

‏{‏واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا، وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا، ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا‏}‏

قوله تعالى‏{‏واذكر في الكتاب موسى‏{‏ أي واقرأ عليهم من القرآن قصة موسى‏.‏ ‏{‏إنه كان مخلصا‏{‏ في عبادته غير مرائي‏.‏ وقرأ أهل الكوفة بفتح اللام؛ أي أخلصناه فجعلناه مختارا‏.‏ ‏{‏وناديناه‏{‏ أي كلمناه ليلة الجمعة‏.‏ ‏{‏من جانب الطور الأيمن‏{‏ أي يمين موسى، وكانت الشجرة في جانب الجبل عن يمين موسى حين أقبل من مدين إلى مصر؛ قاله الطبري وغيره فإن الجبال لا يمين لها ولا شمال‏.‏ ‏{‏وقربناه نجيا‏{‏ نصب على الحال؛ أي كلمناه من غير وحي‏.‏ وقيل‏:‏ أدنيناه لتقريب المنزلة حتى كلمناه‏.‏ وذكر وكيع وقبيصة عن سفيان عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قول الله عز وجل‏{‏وقربناه نجيا‏{‏ أي أدني حتى سمع صرير الأقلام‏.‏ ‏{‏ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا‏{‏ وذلك حين سأل فقال‏{‏واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي‏}‏طه‏:‏ 29‏]‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 54 ‏:‏ 55 ‏)‏

‏{‏واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا، وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا‏}‏

قوله تعالى‏{‏واذكر في الكتاب إسماعيل‏{‏ اختلف فيه؛ فقيل‏:‏ هو إسماعيل بن حزقيل، بعثه الله إلى قومه فسلخوا جلدة رأسه، فخيره الله تعالى فيما شاء من عذابهم، فاستعفاه ورضي بثوابه، وفوض أمرهم إليه في عفوه وعقوبته‏.‏ والجمهور أنه إسماعيل الذبيح أبو العرب بن إبراهيم‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن الذبيح إسحاق؛ والأول أظهر على ما تقدم ويأتي في ‏{‏الصافات‏{‏ إن شاء الله تعالى‏.‏ وخصه الله تعالى بصدق الوعد وإن كان موجودا في غيره من الأنبياء تشريفا له إكراما، كالتقليب بنحو الحليم والأواه والصديق؛ ولأنه المشهور المتواصف من خصاله‏.‏

صدق الوعد محمود وهو من خلق النبيين والمرسلين، وضده وهو الخلف مذموم، وذلك من أخلاق الفاسقين والمنافقين ما تقدم بيانه في ‏{‏براءة‏{‏‏.‏ وقد أثنى الله تعالى على نبيه إسماعيل فوصفه بصدق الوعد‏.‏ واختلف في ذلك؛ فقيل‏:‏ إنه وعد من نفسه بالصبر على الذبح فصبر حتى فدى‏.‏ هذا في قول من يرى أنه الذبيح‏.‏ وقيل‏:‏ وعد رجلا أن يلقاه في موضع فجاء إسماعيل وانتظر الرجل يومه وليلته، فلما كان في اليوم الآخر جاء؛ فقال له‏:‏ ما زلت ها هنا في انتظارك منذ أمس‏.‏ وقيل‏:‏ انتظره ثلاثة أيام‏.‏ وقيل فعل مثله نبينا صلى الله عليه وسلم قبل بعثه؛ ذكره النقاش وخرجه الترمذي وغيره عن عبدالله بن أبى الحسماء قال‏:‏ بايعت النبي صلى الله عليه وسلم ببيع قبل أن يبعث وبقيت له بقية فوعدته أن آتيه بها في مكانه فنسيت، ثم ذكرت بعد ثلاثة أيام، فجئت فإذا هو في مكانه؛ فقال‏:‏ ‏(‏يا فتى لقد شققت علي أنا ها هنا منذ ثلاث أنتظرك‏)‏ لفظ أبي داود‏.‏ وقال يزيد الرقاشي‏:‏ انتظره إسماعيل اثنين وعشرين يوما؛ ذكره الماوردي‏.‏ وفي كتاب ابن سلام أنه انتظره سنة‏.‏ وذكره الزمخشري عن ابن عباس أنه وعد صاحبا له أن ينتظره في مكان فانتظره سنة‏.‏ وذكره القشيري قال‏:‏ فلم يبرح من مكانه سنة حتى أتاه جبريل عليه السلام فقال إن التاجر الذي سألك أن تقعد له حتى يعود هو إبليس فلا تقعد ولا كرامة له‏.‏ وهذا بعيد ولا يصح‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن إسماعيل لم يعد شيئا إلا وفى به، وهذا قول صحيح، وهو الذي يقتضيه ظاهر الآية؛ والله أعلم‏.‏

من هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم ‏(‏العدة دين‏)‏‏.‏ وفي الأثر ‏(‏وأي المؤمن واجب‏)‏ أي في أخلاق المؤمنين‏.‏ وإنما قلنا أن ذلك ليس بواجب فرضا لإجماع العلماء على ما حكاه أبو عمر أن من وعد بمال ما كان ليضرب به مع الغرماء؛ فلذلك قلنا إيجاب الوفاء به حسن مع المروءة، ولا يقضى به والعرب تمتدح بالوفاء، وتذم بالخلف والغدر، وكذلك سائر الأمم، ولقد أحسن القائل‏:‏

متى ما يقل حر لصاحب حاجة نعم يقضها والحر للوأي ضامن

ولا خلاف أن الوفاء يستحق صاحبه الحمد والشكر، وعلى الخلف الذم‏.‏ وقد أثنى الله تبارك وتعالى على من صدق وعده، ووفى بنذره؛ وكفى بهذا مدحا وثناء، وبما خالفه ذما‏.‏ قال مالك‏:‏ إذا سأل الرجل الرجل أن يهب له الهبة فيقول له نعم، ثم يبدو له ألا يفعل فما أرى يلزمه‏.‏

قال مالك‏:‏ ولو كان ذلك في قضاء دين فسأله أن يقضيه عنه فقال نعم، وثم رجال يشهدون عليه فما أحراه أن يلزمه إذا شهد عليه اثنان‏.‏ وقال أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والشافعي وسائر الفقهاء‏:‏ إن العدة لا يلزم منها شيء لأنها منافع لم يقبضها في العارية لأنها طارئة، وفي غير العارية هي أشخاص وأعيان موهوبة لم تقبض فلصاحبها الرجوع فيها‏.‏ وفي البخاري ‏{‏واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد‏{‏؛ وقضى ابن أشوع بالوعد وذكر ذلك عن سمرة بن جندب‏.‏ قال البخاري‏:‏ ورأيت إسحاق بن إبراهيم يحتج بحديث ابن أشوع‏.‏ ‏{‏وكان رسولا نبيا

قيل‏:‏ أرسل إسماعيل إلى جرهم‏.‏ وكل الأنبياء كانوا إذا وعدوا صدقوا، وخص إسماعيل بالذكر تشريفا له‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏وكان يأمر أهله‏{‏ قال الحسن‏:‏ يعني أمته‏.‏ وفي حرف ابن مسعود ‏{‏وكان يأمر أهله جرهم وولده بالصلاة والزكاة‏{‏‏.‏ ‏{‏وكان عند ربه مرضيا‏{‏ أي رضيا زاكيا صالحا‏.‏ قال الكسائي والفراء‏:‏ من قال مرضي بناه على رضيت قالا‏:‏ وأهل الحجاز يقولون‏:‏ مرضو‏.‏ وقال الكسائي والفراء‏:‏ من العرب من يقول رضوان ورضيان فرضوان على مرضو، ورضيان على مرضي ولا يجيز البصريون أن يقولوا إلا رضوان وربوان‏.‏ قال أبو جعفر النحاس‏:‏ سمعت أبا إسحاق الزجاج يقول‏:‏ يخطئون في الخط فيكتبون ربا بالياء ثم يخطئون فيما هو أشد من هذا فيقولون ربيان ولا يجوز إلا ربوان ورضوان قال الله تعالى‏{‏وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس‏{‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 56 ‏:‏ 57 ‏)‏

‏{‏واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا، ورفعناه مكانا عليا‏}‏

قوله تعالى‏{‏واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا‏{‏ إدريس عليه السلام أول من خط بالقلم وأول من خاط الثياب ولبس المخيط، وأول من نظر في علم النجوم والحساب وسيرها‏.‏ وسمي إدريس لكثرة درسه لكتاب الله تعالى‏.‏ وأنزل الله تعالى عليه ثلاثين صحيفة كما في حديث أبي ذر‏.‏ الزمخشري‏:‏ وقيل سمي إدريس إدريس لكثرة درسه كتاب الله تعالى؛ وكان اسمه أخنوخ وهو غير صحيح؛ لأنه لو كان إفعيلا من الدرس لم يكن فيه إلا سبب واحد وهو العلمية وكان منصرفا، فامتناعه من الصرف دليل لعجمة؛ وكذلك إبليس أعجمي وليس من الإبلاس كما يزعمون؛ ولا يعقوب من العقب، ولا إسرائيل بإسرال كما زعم ابن السكيت؛ ومن لم يحقق ولم يتدرب بالصناعة كثرت منه أمثال هذه الهنات؛ يجوز أن يكون معنى إدريس عليه السلام في تلك اللغة قريبا من ذلك فحسبه الراوي من الدرس‏.‏ قال الثعلبي والغزنوي وغيرهما‏:‏ وهو جد نوح وهو خطأ؛ وقد تقدم في ‏{‏الأعراف‏:‏ بيانه وكذا وقع في السيرة أن نوحا عليه السلام بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس النبي فيما يزعمون؛ والله تعالى أعلم‏.‏ وكان أول من أعطى النبوة من بن آدم، وخط بالقلم‏.‏ ابن يرد بن مهلائيل بن قينان بن يانش بن شيث بن آدم صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏ورفعناه مكانا عليا‏{‏ قال أنس بن مالك وأبو سعيد الخدري وغيرهما‏:‏ يعني السماء الرابعة‏.‏ وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ وقال كعب الأحبار‏.‏ وقال ابن عباس والضحاك‏:‏ يعني السماء السادسة؛ ذكره المهدوي‏.‏

قلت‏:‏ ووقع في البخاري عن شريك بن عبدالله بن أبي نمر قال سمعت أنس بن مالك يقول‏:‏ ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من الكعبة، الحديث وفيه‏:‏ كل سماء فيها أنبياء - قد سماهم - منهم إدريس في الثانية‏.‏ وهو وهم، والصحيح أنه في السماء الرابعة؛ كذلك رواه ثابت البناني عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ذكره مسلم في الصحيح‏.‏ وروى مالك بن صعصعة قال قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لما عرج بي إلى السماء أتيت على إدريس في السماء الرابعة‏)‏‏.‏ خرجه مسلم أيضا‏.‏ وكان سبب رفعه على ما قال ابن عباس وكعب وغيرهما‏:‏ أنه سار ذات يوم في حاجة فأصابه وهج الشمس، فقال‏:‏‏(‏يا رب أنا مشيت يوما فكيف بمن يحملها خمسمائة عام في يوم واحد‏!‏ اللهم خفف عنه من ثقلها‏.‏ يعني الملك الموكل بفلك الشمس‏)‏؛ يقول إدريس‏:‏ اللهم خفف عنه من ثقلها واحمل عنه من حرها‏.‏ فلما أصبح الملك وجد من خفة الشمس والظل مالا يعرف فقال‏:‏ يا رب خلقتني لحمل الشمس فما الذي فيه‏؟‏ فقال الله تعالى‏{‏أما إن عبدي إدريس سألني أن أخفف عنك حملها وحرها فأجبته‏{‏ فقال‏:‏ يا رب اجمع بيني وبينه، واجعل بيني وبينه خلة‏.‏ فأذن الله له حتى أتى إدريس، وكان إدريس عليه السلام يسأله‏.‏ فقال أخبرت أنك أكرم الملائكة وأمكنهم عند ملك الموت، فاشفع لي إليه ليؤخر أجلي، فأزداد شكرا وعبادة‏.‏ فقال الملك‏:‏ لا يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها فقال للملك‏:‏ قد علمت ذلك ولكنه أطيب لنفسي‏.‏ قال نعم‏.‏ ثم حمله على جناحه فرفعه إلى السماء ووضعه عند مطلع الشمس، ثم قال لملك الموت‏:‏ لي صديق من بني آدم تشفع بي إليك لتؤخر أجله‏.‏ فقال‏:‏ ليس ذلك إلي ولكن إن أحببت علمه أعلمته متى يموت‏.‏ قال‏{‏‏{‏نعم‏{‏ ثم نظر في ديوانه، فقال‏:‏ إنك تسألني عن إنسان ما أراه يموت أبدا‏.‏ قال ‏{‏وكيف‏{‏ ‏؟‏ قال‏:‏ لا أجده يموت إلا عند مطلع الشمس‏.‏ قال‏:‏ فإني أتيتك وتركته هناك؛ قال‏:‏ انطلق فما أراك تجده إلا وقد مات فوالله ما بقي من أجل إدريس شيء‏.‏ فرجع الملك فوجده ميتا‏.‏ وقال السدي‏:‏ إنه نام ذات يوم، واشتد عليه حر الشمس، فقام وهو منها في كرب؛ فقال‏:‏ اللهم خفف عن ملك الشمس حرها، وأعنه على ثقلها، فإنه يمارس نارا حامية‏.‏ فأصبح ملك الشمس وقد نصب له كرسي من نور عنده سبعون ألف ملك عن يمينه، ومثلها عن يساره يخدمونه، ويتولون أمره وعمله من تحت حكمه؛ فقال ملك الشمس‏:‏ يا رب من أين لي هذا‏؟‏‏.‏ قال ‏{‏دعا لك رجل من بني آدم يقال له إدريس‏{‏ ثم ذكر نحو حديث كعب قال فقال له ملك الشمس‏:‏ أتريد حاجة‏؟‏ قال‏:‏ نعم وددت أني لو رأيت الجنة‏.‏ قال‏:‏ فرفعه على جناحه، ثم طار به، فبينما هو في السماء الرابعة التقى بملك الموت ينظر في السماء، ينظر يمينا وشمالا، فسلم عليه ملك الشمس، وقال‏:‏ يا إدريس هذا ملك الموت فسلم عليه فقال ملك الموت‏:‏ سبحان الله ‏!‏ ولأي معنى رفعته هنا‏؟‏ قال‏:‏ رفعته لأريه الجنة‏.‏ قال‏:‏ فإن الله تعالى أمرني أن أقبض روح إدريس في السماء الرابعة‏.‏ قلت‏:‏ يا رب وأين إدريس من السماء الرابعة، فنزلت فإذا هو معك؛ فقبض روحه فرفعها إلى الجنة، ودفنت الملائكة جثته في السماء الرابعة، فذلك قوله تعالى‏{‏ورفعناه مكانا عليا‏{‏‏.‏

قال وهب بن منبه‏:‏ كان يرفع لإدريس كل يوم من العبادة مثل ما يرفع لأهل الأرض في زمانه، فعجب منه الملائكة واشتاق إليه ملك الموت، فاستأذن ربه في زيارته فأذن له، فأتاه في صورة آدمي، وكان إدريس عليه السلام يصوم النهار؛ فلما كان وقت إفطاره دعاه إلى طعامه فأبى أن يأكل‏.‏ ففعل به ذلك ثلاث ليال فأنكره إدريس؛ وقال له‏:‏ من أنت‏!‏ قال أنا ملك الموت؛ استأذنت ربي أن أصحبك فأذن لي؛ فقال‏:‏ إن لي إليك حاجة‏.‏ قال‏:‏ وما هي‏؟‏ قال‏:‏ أن تقبض روحي‏.‏ فأوحى الله تعالى إليه أن اقبض روحه؛ فقبضه ورده إليه بعد ساعة، وقال له ملك الموت‏:‏ ما الفائدة في قبض روحك‏؟‏ قال‏:‏ لأذوق كرب الموت فأكون له أشد استعدادا‏.‏ ثم قال له إدريس بعد ساعة‏:‏ إن لي إليك حاجة أخرى‏.‏ قال‏:‏ وما هي‏؟‏ قال أن ترفعني إلى السماء فأنظر إلى الجنة والنار؛ فأذن الله تعالى له في رفعه إلى السموات، فرأى النار فصعق، فلما أفاق قال أرني الجنة؛ فأدخله الجنة، ثم قال له ملك الموت‏:‏ أخرج لتعود إلى مقرك‏.‏ فتعلق بشجرة وقال‏:‏ لا أخرج منها‏.‏ فبعث الله تعالى بينهما ملكا حكما، فقال مالك لا تخرج‏؟‏ قال‏:‏ لأن الله تعالى قال ‏{‏كل نفس ذائقة الموت‏}‏آل عمران‏:‏185‏]‏ وأنا ذقته، وقال‏{‏وإن منكم إلا واردها‏}‏مريم‏:‏71‏]‏ وقد وردتها؛ وقال‏{‏وما هم منها بمخرجين‏}‏الحجر‏:‏ 48‏]‏ فكيف أخرج‏؟‏ قال الله تبارك وتعالى لملك الموت‏{‏بإذني دخل الجنة وبأمري يخرج‏{‏ فهو حي هنالك فذلك قوله ‏{‏ورفعناه مكانا عليا‏{‏ قال النحاس‏:‏ قول إدريس ‏{‏وما هم منها بمخرجين‏{‏ يجوز أن يكون الله أعلم هذا إدريس، ثم نزل القرآن به‏.‏ قال وهب بن منبه‏:‏ فإدريس تارة يرتع في الجنة، وتارة بعبد الله تعالى مع الملائكة في السماء‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 58 ‏)‏

‏{‏أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا‏}‏

قوله تعالى‏{‏أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم‏{‏ يريد إدريس وحده‏.‏ ‏{‏وممن حملنا مع نوح‏{‏ يريد إبراهيم وحده ‏{‏ومن ذرية إبراهيم‏{‏ يريد إسماعيل وإسحاق ويعقوب‏.‏ ‏{‏و‏{‏ من ذرية ‏{‏إسرائيل‏{‏ موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى‏.‏ فكان لإدريس ونوح شرف القرب من آدم، ولإبراهيم شرف القرب من نوج ولإسماعيل وإسحاق ويعقوب شرف القرب من إبراهيم‏.‏ ‏{‏وممن هدينا‏{‏ أي إلى الإسلام‏{‏واجتبينا‏{‏ بالإيمان‏.‏ ‏{‏إذا تتلى عليهم آيات الرحمن‏{‏ وقرأ شبل بن عباد المكي ‏{‏يتلى‏{‏ بالتذكير لأن التأنيث غير حقيقي مع وجود الفاصل‏.‏ ‏{‏خروا سجدا وبكيا

وصفهم بالخشوع لله والبكاء‏.‏ وقد مضى في ‏{‏سبحان‏}‏الإسراء‏:‏ 1‏]‏‏.‏ يقال بكى يبكي بكاء وبكى بكيا، إلا أن الخليل قال‏:‏ إذا قصرت البكاء فهو مثل الحزن؛ أي ليس معه صوت كما قال الشاعر‏:‏

بكت عيني وحق لها بكاها وما يغني البكاء ولا العويل

‏{‏وسجدا‏{‏ نصب على الحال ‏{‏وبكيا‏{‏ عطف عليه‏.‏

في هذه الآية دلالة على أن لآيات الرحمن تأثيرا في القلوب‏.‏ قال الحسن ‏(‏إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا‏)‏ الصلاة‏.‏ وقال الأصم‏:‏ المراد بآيات الرحمن الكتب المتضمنة لتوحيده وحججه، وأنهم كانوا يسجدون عند تلاوتها، ويبكون عند ذكرها‏.‏ والمروى عن ابن عباس أن المراد به القرآن خاصة، وأنهم كانوا يسجدون ويبكون عند تلاوته؛ قال الكيا‏:‏ وفي هذا دلالة من قوله على أن القرآن هو الذي كان يتلى على جميع الأنبياء، ولو كان كذلك لما كان الرسول عليه الصلاة والسلام مختصا بإنزاله إليه‏.‏

احتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على وجوب سجود القرآن على المستمع والقارئ‏.‏ قال الكيا‏:‏ وهذا بعيد فإن هذا الوصف شامل لكل آيات الله تعالى‏.‏ وضم السجود إلى البكاء، وأبان به عن طريقة الأنبياء الصلاة والسلام في تعظيمهم لله تعالى وآياته، وليس فيه دلالة على وجوب ذلك عند آية مخصوصة‏.‏ قال العلماء‏:‏ ينبغي لمن قرأ سجدة أن يدعو فيها بما يليق بآياتها، فإن قرأ سورة السجدة ‏{‏الم تنزيل‏{‏ قال‏:‏ اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك، المسبحين بحمدك، وأعوذ بك أن أكون من المستكبرين عن أمرك‏.‏ وإن قرأ سجدة ‏{‏سبحان‏{‏ قال‏:‏ اللهم اجعلني من الباكين إليك، الخاشعين لك‏.‏ وإن قرأ هذه قال‏:‏ اللهم اجعلني من عبادك المنعم عليهم، المهديين الساجدين لك، الباكين عند تلاوة آياتك‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 59 ‏:‏ 63 ‏)‏

‏{‏فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا، إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا، جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا، لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا، تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا‏}‏

قوله تعالى‏{‏فخلف من بعدهم خلف‏{‏ أي أولاد سوء‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ حدثنا حجاج عن ابن جريج عن مجاهد قال‏:‏ ذلك عند قيام الساعة، وذهاب صالحي هذه الأمة أمة محمد صلى الله عليه وسلم ينزو بعضهم على بعض في الأزقة زنى‏.‏ وقد تقدم القول في ‏{‏خلف‏{‏ في ‏{‏الأعراف‏{‏ فلا معنى للإعادة‏.‏ ‏{‏أضاعوا الصلاة‏{‏ وقرأ عبدالله والحسن ‏{‏أضاعوا الصلوات‏{‏ على الجمع‏.‏ وهو ذم ونص في أن إضاعة الصلاة من الكبائر التي يوبق بها صاحبها ولا خلاف في ذلك، وقد قال عمر‏:‏ ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع‏.‏ واختلفوا فيمن المراد بهذه الآية؛ فقال مجاهد‏:‏ النصارى خلفوا بعد اليهود‏.‏ وقال محمد بن كعب القرظي ومجاهد أيضا وعطاء‏:‏ هم قوم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في آخر الزمان؛ أي يكون في هذه الأمة من هذه صفته لا أنهم المراد بهذه الآية‏.‏ واختلفوا أيضا في معنى إضاعتها؛ فقال القرظي‏:‏ هي إضاعة كفر وجحد بها‏.‏ وقال القاسم بن مخيمرة، وعبدالله بن مسعود‏:‏ هي إضاعة أوقاتها، وعدم القيام بحقوقها وهو الصحيح، وأنها إذا صليت مخلى بها لا تصح ولا تجزئ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي صلى وجاء فسلم عليه ‏(‏ارجع فصل فإنك لم تصل‏)‏ ثلاث مرات خرجه مسلم، وقال حذيفة لرجل يصلي فطفف‏:‏ منذ كم تصلي هذه الصلاة‏؟‏ قال منذ أربعين عاما‏.‏ قال‏:‏ ما صليت، ولومت وأنت تصلي هذه الصلاة لمت على غير فطرة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ ثم قال‏:‏ إن الرجل ليخفف الصلاة ويتم ويحسن‏.‏ خرجه البخاري واللفظ للنسائي، وفي الترمذي عن أبي مسعود الأنصاري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تجزئ صلاة لا يقيم فيها الرجل‏)‏ يعني صلبه في الركوع والسجود؛ قال‏:‏ حديث حسن صحيح؛ والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم؛ يرون أن يقيم الرجل صلبه في الركوع والسجود؛ قال الشافعي وأحمد وإسحاق‏:‏ من لم يقم صلبه في الركوع والسجود فصلاته فاسدة؛ قال صلى الله عليه وسلم ‏(‏تلك الصلاة صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقرها أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا‏)‏‏.‏ وهذا ذم لمن يفعل ذلك‏.‏ وقال فروة بن خالد بن سنان‏:‏ استبطأ أصحاب الضحاك مرة أميرا في صلاة العصر حتى كادت الشمس تغرب؛ فقرأ الضحاك هذه الآية، ثم قال‏:‏ والله لأن أدعها أحب إلي من أن أضيعها‏.‏ وجملة القول هذا الباب أن من لم يحافظ على كمال وضوئها وركوعها وسجودها فليس بمحافظ عليها، ومن لم يحافظ عليها فقد ضيعها، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، كما أن من حافظ عليها حفظ الله عليه دينه، ولا دين لمن لا صلاة له‏.‏ وقال الحسن‏:‏ عطلوا المساجد، واشتغلوا بالصنائع والأسباب‏.‏ ‏{‏واتبعوا الشهوات‏{‏ أي اللذات والمعاصي‏.‏

روى الترمذي وأبو داود عن أنس بن حكيم الضبي أنه أتى المدينة فلقي أبا هريرة فقال له‏:‏ يا فتى ألا أحدثك حديثا لعل الله تعالى أن ينفعك به؛ قلت‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏إن أول ما يحاسب به الناس يوم القيامة من أعمالهم الصلاة فيقول الله تبارك وتعالى لملائكته وهو أعلم انظروا في صلاة عبدي أتمها أو نقصها فإن كانت تامة كتبت له تامة وإن كان انتقص منها شيئا قال انظروا هل لعبدي من تطوع فإن كان تطوع قال أكملوا لعبدي فريضته من تطوعه ومن تؤخذ الأعمال على ذلك‏)‏‏.‏ قال يونس‏:‏ وأحسبه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لفظ أبي داود‏.‏ وقال‏:‏ حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا داود بن أبي هند عن زوارة بن أوفى عن تميم الداري عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ثم الزكاة مثل ذلك‏)‏ ‏(‏ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك‏)‏‏.‏ وأخرجه النسائي عن همام عن الحسن عن حريث بن قبيصة عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‏(‏إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة بصلاته فإن صلحت فقد أفلح وأنجح وإن فسدت فقد خاب وخسر قال همام‏:‏ لا أدري هذا من كلام قتادة أومن الرواية فإن انتقص من فريضته شيء قال انظروا هل لعبدي من تطوع فيكمل به نقص من الفريضة ثم يكون سائر عمله على نحو ذلك‏)‏ خالفه أبو العوام فرواه عن قتادة عن الحسن عن أبي رافع عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏(‏إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته فإن وجدت تامة كتبت تامة وإن كان انتقص منها شيء قال انظروا هل تجدون له من تطوع يكمل ما ضيع من فريضته من تطوعه ثم سائر الأعمال تجري على حسب ذلك‏)قال النسائي أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال حدثنا النضر بن شميل قال أنبأنا حماد بن سلمة عن الأزرق بن قيس يحي بن يعمر عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏(‏أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته فإن كان أكملها وإلا قال الله عز وجل انظروا لعبدي من تطوع فإن وجدل تطوع قال أ كملوا به الفريضة‏)‏ قال أبو عمر بن عبدالبر في كتاب ‏{‏التمهيد‏{‏ أما إكمال الفريضة من التطوع فإنما يكون والله أعلم فيمن سها عن فريضة فلم يأت بها، أولم يحسن ركوعها وسجودها ولم يدر قدر ذلك وأما من تركها، أونسي ثم ذكرها فلم يأت بها عامدا واشتغل بالتطوع عن أداء فرضها وهو ذاكر له فلا تكمل له فريضة من تطوعه والله أعلم وقد روى من حديث الشاميين في هذا الباب حديث منكر يرويه محمد بن حمير عن عمرو بن قيس السكوني عن عبدالله بن قرط عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏(‏من صلى صلاة لم يكمل فيها ركوعه وسجوده زيد فيها من تسبيحاته حتى تتم‏)‏ قال أبو عمر وهذا لا يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه وليس بالقوي وإن كان صح كان معناه أنه خرج من صلاة كان قد أتمها عند نفسه وليست في الحكم بتامة

قلت‏:‏ فينبغي للإنسان أن يحسن فرضه ونفله حتى يكون له نفل يجده زائدا على فرضه يقربه من ربه كما قال سبحانه وتعالى ‏(‏وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه‏{‏ الحديث فأما إذا كان نفل يكمل به الفرض فحكمه في المعنى حكم الفرض ومن لا يحسن أن يصلي الفرض فأحرى وأولى ألا يحسن التنفل لا جرم تنفل الناس في أشد ما يكون من النقصان والخلل لخفته عندهم وتهاونهم به حتى كأنه غير معتد به ولعمر الله لقد يشاهد في الوجود من يشار إليه ويظن به العلم تنفله كذلك بل فرضه إذ ينقره نقر الديك لعدم معرفته بالحديث فكيف بالجهال الذين لا يعلمون وقد قال العلماء ولا يجزئ ركوع ولا سجود ولا وقوف بعه الركوع ولا جلوس بين السجدتين حتى يعتدل راكعا وواقفا وساجدا وجالسا وهذا هو الصحيح في الأثر وعليه جمهور العلماء وأهل النظر وهذه رواية ابن وهب وأبي مصعب عن مالك وقد مضى هذا المعنى في ‏{‏البقرة‏{‏ وإذا كان هذا فكيف يكمل بذلك التنفل ما نقص من هذا الفرض على سبيل الجهل والسهو‏؟‏‏!‏ بل كل ذلك غير صحيح ولا مقبول لأنه وقع على غير المطلوب والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏واتبعوا الشهوات‏{‏ وعن علي رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏واتبعوا الشهوات‏)‏ هو من بنى (1) وركب المنظور ولبس المشهور‏.‏

قلت الشهوات عبارة عما يوافق الإنسان ويشتهيه ويلائمه ولا يتقيه وفي الصحيح ‏(‏حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات‏)‏ وما ذكر عن علي رضي الله عنه جزء من هذا

‏{‏فسوف يلقون غيا‏{‏ قال ابن زيد‏:‏ شرا أو ضلالا أو خيبة، قال‏:‏

فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ومن يغو لا يعدم على الغي لائما

وقال عبدالله بن مسعود‏:‏ هو واد في جهنم‏.‏ والتقدير عند أهل الله فسوف يلقون هذا الغي كما قال جل ذكره‏{‏ومن يفعل ذلك يلق أثاما‏}‏الفرقان‏:‏ 68‏]‏ والأظهر أن الغي اسم للوادي سمي به لأن الغاوين يصيرون إليه قال كعب ‏(‏يظهر في آخر الزمان قوم بأيديهم سياط كأذناب البقر ثم قرأ ‏{‏فسوف يلقون غيا‏{‏ أي هلاكا وضلالا في جهنم وعنه غي واد في جهنم أبعدها قعرا وأشدها حرا فيه بئر يسمى البهيم كلما خبت جهنم فتح الله تعالى تلك البر فتسعر بها جهنم وقال ابن عباس غي واد في جهنم وأن أودية جهنم لتستعيذ من حره أعد الله تعالى ذلك الوادي للزاني المصر على الزنى، ولشارب الخمر المدمن عليه ولآكل الربا الذي لا ينزع عنه ولأهل العقوق ولشاهد الزور ولامرأة أدخلت على زوجها ولدا ليس منه‏.‏

قوله تعالى‏{‏إلا من تاب‏{‏ أي من تضييع الصلاة واتباع الشهوات فرجع إلى طاعة ربه ‏{‏وآمن

به ‏{‏وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة‏{‏ قرأ أبو جعفر وشيبة وابن كثير وابن محيصن وأبو عمرو ويعقوب وأبو بكر ‏(‏يدخلون‏)‏ بفتح الخاء وفتح الياء الباقون ‏{‏ولا يظلمون شيئا‏{‏ أي لا ينقص من أعمالهم الصالحة شيء إلا أنهم يكتب لهم بكل حسنة عشر إلى سبعمائة‏.‏ ‏{‏جنات عدن‏{‏ بدلا من الجنة فانتصبت قال أبو إسحاق الزجاج ويجوز ‏{‏جنات عدن‏{‏ على الابتداء قال أبو حاتم ولولا الخط لكان ‏{‏جنة عدن‏{‏ لأن قبله ‏{‏يدخلون الجنة‏{‏ ‏{‏التي وعد الرحمن عباده بالغيب‏{‏ أي من عبده وحفظ عهده بالغيب وقيل آمنوا بالجنة ولم يروها ‏{‏إنه كان وعده مأتيا‏{‏ ‏{‏مأتيا‏{‏ مفعول من الإتيان‏.‏ وكل ما وصل إليك فقد وصلت إليه تقول أتت علي ستون سنة وأتيت على ستين سنة‏.‏ ووصل إلي من فلان خير ووصلت منه إلى خير وقال القتبي ‏{‏مأتيا‏{‏ بمعنى آت فهو مفعول بمعنى فاعل و‏{‏مأتيا‏{‏ مهموز لأنه من يأتي ومن خفف الهمزة جعلها ألفا وقال الطبري الوعد ههنا الموعود وهو الجنة أي يأتيها أولياؤه‏.‏ ‏{‏لا يسمعون فيها لغوا‏{‏ أي في الجنة واللغو معناه الباطل من الكلام والفحش منه والفضول ومالا ينتفع به ومنه الحديث ‏(‏إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقه لغوت‏)‏ ويروى ‏{‏لغيت‏{‏ وهي لغة أبي هريرة كما قال الشاعر

ورب أسراب حجيج كظم عن اللغا ورفث التكلم

قال ابن عباس‏:‏ اللغو كل ما لم فيه ذكر الله تعالى أي كلامهم في الجنة حمد الله وتسبيحه ‏{‏إلا سلاما‏{‏ أي لكن يسمعون سلاما فهو من الاستثناء المنقطع يعني سلام بعضهم على بعض وسلام الملك عليهم قاله مقاتل وغيره والسلام اسم جامع للخير والمعنى أنهم لا يسمعون فيها إلا ما يحبون قوله تعالى‏{‏ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا‏{‏ أي لهم ما يشتهون من المطاعم والمشارب بكرة وعشيا أي قدر هذين الوقتين إذ لا بكرة ثم ولا عشيا كقوله تعالى ‏{‏غدوها شهر ورواحها شهر‏{‏ أي قدر شهر؛ قال معناه ابن عباس وابن جريج وغيرهما وقيل عرفهم اعتدال أحوال أهل الجنة وكان أهنأ النعمة عند العرب التمكين من المطعم والمشرب بكرة وعشيا قال بن أبي كثير وقتادة كانت العرب في زمانها من وجد غداء وعشاء معا فذلك هو الناعم فنزلت وقيل أي رزقهم فيها غير منقطع كما قال ‏(‏لا مقطوعة ولا ممنوعة‏)‏ كما تقول أنا أصبح وأمسي في ذكرك أي ذكري لك دائم‏.‏ ويحتمل أن تكون البكرة قبل تشاغلهم بلذاتهم والعشي بعد فراغهم من لذاتهم لأنه يتخللها فترات انتقال من حال إلى حال وهذا يرجع إلى القول الأول وروى الزبير بن بكار عن إسماعيل بن أبي أويس قال قال مالك بن أنس طعام المؤمنين في اليوم مرتان وتلا قول الله عز وجل ‏{‏ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا‏{‏ ثم قال‏:‏ وعوض الله عز وجل المؤمنين في الصيام السحور بدلا من الغداء ليقووا به على عبادة ربهم وقيل‏:‏ إنما ذكر ذلك لأن صفة الغداء وهيئته (2) عن صفة العشاء وهيئته؛ وهذا لا يعرفه إلا الملوك وكذلك يكون في الجنة رزق الغداء غير رزق العشاء تتلون عليهم النعم ليزدادوا تنعما وغبطة‏.‏ وخرج الترمذي الحكيم في ‏(‏نوادر الأصول‏)‏ من حديث أبان عن الحسن وأبي قلابة قالا قال رجل يا رسول الله هل في الجنة من ليل‏؟‏ قال ‏(‏وما هيجك على هذا‏)‏ قال سمعت الله تعالى يذكر في الكتاب‏{‏ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا‏{‏ فقلت‏:‏ الليل بين البكرة والعشي وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏ليس هناك ليل إنما هو ضوء ونور يرد الغدو على الرواح والرواح الغدو وتأتيهم طرف الهدايا من الله تعالى لمواقيت الصلاة التي كانوا يصلون فيها في الدنيا وتسلم عليهم الملائكة‏)‏ وهذا في غاية البيان لمعنى الآية وقد ذكرناه في كتاب ‏(‏التذكرة‏)‏ وقال العلماء ليس في الجنة ليل ولا نهار وإنما هم في نور أبدا إنما يعرفون مقدار الليل من النهار بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب وفتح الأبواب ذكره أبو الفرج الجوزي والمهدوي وغيرهما‏.‏

قوله تعالى‏{‏تلك الجنة التي‏{‏ أي هذه الجنة التي وصفنا أحوال أهلها ‏{‏نورث‏{‏ بالتخفيف‏.‏ وقرأ يعقوب ‏{‏نورث‏{‏ بفتح الواو وتشديد الراء‏.‏ والاختيار التخفيف؛ لقوله تعالى‏{‏ثم أورثنا الكتاب‏{‏‏.‏‏[‏فاطر‏:‏ 32‏]‏‏.‏ ‏{‏من عبادنا من كان تقيا‏{‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏(‏أي من اتقاني وعمل بطاعتي‏)‏ وقيل هو على التقديم والتأخير تقديره نورث من كان تقيا من عبادنا‏.‏

 

">الآية رقم ‏(‏ 64 ‏:‏ 65 ‏)‏">

الآية رقم ‏(‏ 64 ‏:‏ 65 ‏)‏

‏{‏وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا، رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا‏}‏

روى الترمذي عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل ‏(‏ما منعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا‏)‏ قال‏:‏ فنزلت هذه الآية‏{‏وما نتنزل إلا بأمر ربك‏{‏ إلى آخر الآية‏.‏ قال هذا حديث حسن غريب ورواه البخاري حدثنا خلال بن يحيى حدثنا عمر بن ذر قال سمعت أبي يحدث عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل ‏(‏ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزرونا فنزلت ‏{‏وما نتنزل إلا بأمر ربك‏{‏ الآية؛ قال كان هذا الجواب لمحمد وقال مجاهد أبطأ الملك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاه فقال‏:‏ ‏(‏ما الذي أبطأك‏)‏ قال‏:‏ كيف نأتيكم وأنتم لا تقصون أظفاركم ولا تأخذون من شواربكم، ولا تنقون رواجبكم، ولا تستاكون؛ قال مجاهد‏:‏ فنزلت الآية في هذا وقال مجاهد أيضا وقتادة وعكرمة والضحاك ومقاتل والكلبي احتبس جبريل عن النبي صلى الله عليه وسلم حين سأل قومه عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين والروح ولم يدر ما يجيبهم ورجا أن يأتيه جبريل بجواب ما سألوه عنه قال عكرمة فأبطأ عليه أربعين يوم وقال مجاهد اثنتي عشرة ليلة وقيل خمسة عشر يوما وقيل ثلاثة عشر وقيل ثلاثة أيام فقال النبي صلي ‏(‏أبطأت علي حتى ساء ظني واشتقت إليك‏)‏ فقال جبريل عليه السلام إني كنت أشوق ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت وإذا حبست احتبست فنزلت الآية ‏(‏وما نتنزل إلا بأمر ربك‏)‏ وأنزل ‏(‏والضحى والليل إذا سجى وما ودعك ربك وما قلى‏)‏ ذكره الثعلبي والواحدي والقشيري وغيرهم وقيل هو إخبار من أهل الجنة أنهم يقولون عند دخولها وما نتنزل هذه الجنان إلا بأمر ربك وعلى هذا تكون الآية متصلة به قبل وعلى ما ذكرنا من الأقوال قبل‏:‏ تكون غير متصلة بما قبلها والقرآن سور ثم السور تشتمل على جمل، وقد تنفصل جملة عن جملة ‏{‏وما نتنزل‏{‏ أي قال الله تعالى قل يا جبريل ‏{‏وما نتنزل إلا بأمر ربك‏{‏ وهذا يحتمل وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ إنا إذا أمرنا نزلنا عليك الثاني إذا أمرك ربك نزلنا عليك فيكون الأمر على الأول متوجها إلى النزول وعلى الوجه الثاني متوجها إلى التنزيل‏.‏

قوله تعالى‏{‏له‏{‏ أي لله ‏{‏ما بين أيدينا‏{‏ أي علم ما بين أيدينا ‏{‏وما خلفنا وما بين ذلك‏{‏ قال ابن عباس وابن جريج‏:‏ ما مضى أمامنا من أمر الدنيا، وما يكون بعدنا من أمرها وأمر الآخرة ‏{‏وما بين ذلك‏{‏ من البرزخ‏.‏ وقال قتادة ومقاتل‏{‏له ما بين أيدينا‏{‏ من أمر الآخرة ‏{‏وما خلفنا‏{‏ ما مضى من الدنيا ‏{‏وما بين ذلك‏{‏ ما بين النفختين وبينهما أربعون سنة‏.‏ الأخفش‏{‏ما بين أيدينا‏{‏ ما كان قبل أن نخلق ‏{‏وما خلفنا‏{‏ ما يكون بعد أن نموت ‏{‏وما بين ذلك‏{‏ ما يكون منذ خلقنا إلى أن نموت‏.‏ وقيل‏{‏ما بين أيدينا‏{‏ من الثواب والعقاب وأمور الآخرة ‏{‏وما خلفنا‏{‏ ما مضى من أعمالنا في الدنيا ‏(‏وما بين ذلك‏)‏ أي ما يكون من هذا الوقت إلى يوم القيامة ويحتمل خامسا ‏{‏ما بين أيدينا‏{‏ السماء ‏{‏وما خلفنا‏{‏ الأرض ‏{‏و بين ذلك‏{‏ أي ما بين السماء والأرض وقال ابن عباس في رواية ‏{‏و ما بين أيدينا‏{‏ يريد الدنيا إلى الأرض ‏{‏وما خلفنا‏{‏ يريد السموات وهذا على عكس ما قبله ‏{‏ما بين ذلك‏{‏ يريد الهواء ذكر الأول الماوردي والثاني القشيري الزمخشري‏:‏ وقيل ما مضى من أعمارنا وما عبر منها والحال التي نحن فيها ولم يقل ما بين ذينك لأن المراد ما بين ما ذكرنا كما قال ‏{‏لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك‏{‏ أي بين ما ذكرنا ‏{‏وما كان ربك نسيا‏{‏ أي ناسيا إذا شاء أن يرسل إليك أرسل وقيل المعنى لم ينسك وإن تأخر عنك الوحي وقيل المعنى أنه عالم بجميع الأشياء متقدمها ومتأخرها ولا ينسى شيئا منها‏.‏

قوله تعالى‏{‏رب السماوات والأرض وما بينهما‏{‏ أي ربهما وخالقهما وخالق ما بينهما ومالكهما ومالك ما بينهما؛ فكما إليه تدبير الأزمان كذلك إليه تدبير الأعيان‏.‏ ‏{‏فاعبده

أي وحده لذلك وفي هذا دلالة على أن اكتسابات الخلق مفعولة لله تعالى كما يقول أهل الحق وهو القول الحق لأن الرب في هذا الموضوع لا يمكن حمله على معنى من معانيه إلا على المالك وإذا ثبت أنه مالك ما بين السماء والأرض دخل في ذلك اكتساب الخلق ووجبت عبادته لما ثبت أنه المالك على الإطلاق وحقيقة العبادة الطاعة بغاية الخضوع ولا يستحقها أحد سوى المالك المعبود ‏{‏واصطبر لعبادته‏{‏ أي لطاعته ولا تحزن لتأخير الوحي عنك بل اشتغل بما أمرت به وأصل اصطبر اصتبر فثقل الجمع بين التاء والصاد لاختلافهما فأبدل من التاء طاء كما تقول من الصوم صطام ‏{‏هل تعلم له سميا‏{‏ قال ابن عباس يريد هل تعلم له ولدا أي نظيرا أو مثلا أو شبيها يستحق مثل اسمه الذي هو الرحمن وقال مجاهد مأخوذ من المساماة وروى إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال ‏(‏هل تعلم له ولدا أي نظيرا أو مثلا أو شبيها يستحق مثل اسمه الذي هو الرحمن‏)‏ وروى إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏هل تعلم له أحدا سمي الرحمن‏)‏‏.‏ قال النحاس وهذا أجل إسناد علمته روي في هذا الحرف وهو قول صحيح ولا يقال الرحمن إلا لله

قلت وقد مضى هذا مبينا في البسملة والحمد لله روى ابن أبي نجيح عن مجاهد‏(‏هل تعلم له سميا‏)‏ قال مثلا ابن المسيب عدلا قتادة والكلبي هل تعلم أحدا يسمى الله تعالى غير الله أو يقال له الله إلا الله وهل لا أي لا تعلم والله تعالى أعلم‏.‏

 

">الآية رقم ‏(‏ 66 ‏:‏ 67 ‏)‏">

الآية رقم ‏(‏ 66 ‏:‏ 67 ‏)‏

‏{‏ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا، أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا‏}‏

قوله تعالى‏{‏ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا‏{‏ الإنسان هنا أبي بن خلف وجد عظاما بالية ففتتها بيده وقال‏:‏ زعم محمد أنا نبعث بعد الموت قال الكلبي ذكره الواحدي والثعلبي والقشيري وقال المهدوي نزلت في الوليد بن المغيرة وأصحابه وهو قول ابن عباس واللام في ‏{‏لسوف أخرج حيا‏{‏ للتأكيد كأنه قيل له إذا ما مت لسوف تبعث حيا فقال ‏{‏أئذا ما مت لسوف أخرج حيا‏{‏ ‏!‏ قال ذلك منكرا فجاءت اللام في الجواب هما كانت في القول الأول ولو كان مبتدئا لم تدخل اللام لأنها للتأكيد والإيجاب وهو منكر للبعث وقرا ابن ذكوان ‏{‏إذا ما مت‏{‏ على الخبر والباقون بالاستفهام على أصولهم بالهمز وقرأ الحسن وأبو حيوة ‏{‏لسوف اخرج حيا‏{‏ قال استهزاء لأنهم لا يصدقون بالبعث والإنسان ههنا الكافر

قوله تعالى‏{‏أولا يذكر الإنسان‏{‏ أي أو لا يذكر هذا القائل ‏{‏أنا خلقناه من قبل‏{‏ أي من قبل سؤاله وقوله هذا القول ‏{‏ولم يك شيئا‏{‏ فالإعادة مثل الابتداء فلم يناقض وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما وأهل مكة وأبو عمر وأبو جعفر ‏{‏أولا يذكر‏{‏ وقرأ شيبه ونافع وعاصم ‏{‏أو لا يذكر‏{‏ بالتخفيف‏.‏ والاختيار التشديد وأصله يتذكر لقوله تعالى ‏{‏إنما يتذكر أولو الألباب‏{‏ وأخواتها وفي حرف أبي ‏{‏أولا يتذكر‏{‏ وهذه القراءة على التفسير لأنها مخالفة لخط المصحف‏:‏ ومعنى ‏{‏يتذكر‏{‏ يتفكر ومعنى ‏{‏يذكر‏{‏ يتنبه ويعلم قال النحاس

 

">الآية رقم ‏(‏ 68 ‏:‏ 70 ‏)‏">

الآية رقم ‏(‏ 68 ‏:‏ 70 ‏)‏

‏{‏فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا، ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا، ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا‏}‏

قوله تعالى‏{‏فوربك لنحشرنهم‏{‏ أقسم بنفسه بعد إقامة الحجة بأنه يحشرهم من قبورهم إلى المعاد كما يحشر المؤمنين‏.‏ ‏{‏والشياطين‏{‏ أي ولنحشرن الشياطين قرناء لهم قيل يحشر كل كافر مع شيطان في سلسلة كما قال ‏{‏احشروا الذين ظلموا وأزواجهم‏}‏الصافات‏:‏ 22‏]‏ الزمخشري والواو في ‏{‏والشياطين‏{‏ يجوز أن تكون للعطف وبمعنى مع وهي بمعنى مع أوقع والمعنى أنهم يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذي أغووهم؛ يقرنون كل كافر مع شيطان في سلسلة‏.‏ فإن قلت هذا إذا أريد بالإنسان الكفرة خاصة فإن أريد الأناسي على العموم فكيف يستقيم حشرهم مع الشياطين‏؟‏ قلت إذا حشر جميع الناس حشرا واحدا وفيهم الكفرة مقرونين بالشياطين فقد حشروا مع الشياطين كما حشروا مع الكفرة فإن قلت هلا عزل السعداء عن الأشقياء في الحشر كما عزلوا عنهم في الجزاء‏؟‏ قلت لم يفرق بينهم في المحشر وأحضروا حيث تجاثوا حول جهنم وأوردوا معهم النار ليشاهد السعداء الأحوال التي نجاهم الله منها وخلصهم، فيزدادوا لذلك غبطة وسرورا إلى سرور ويشمتوا بأعداء الله تعالى وأعدائهم فتزداد مساءتهم وحسرتهم وما يغيظهم من سعادة أولياء الله وشماتتهم بهم فإن قلت ما معنى إحضارهم جثيا‏؟‏ قلت أما إذا فسر الإنسان بالخصوص فالمعنى أنهم يعتلون من المحشر إلى شاطئ جهنم علا على حالهم التي كانوا عليها في الموقف جثاة على ركبهم غير مشاة على أقدامهم وذلك أن أهل الموقف وصفوا بالجثو قال الله تعالى ‏{‏وترى كل أمة جاثية‏{‏ على الحالة المعهودة في مواقف المقاولات والمناقلات من تجاثي أهلها على الركب لما في ذلك من الاستيفاز والقلق وإطلاق الحبا خلاف الطمأنينة أولما يدهمهم من شدة الأمر التي لا يطيقون معها القيام على أرجلهم فيجسون على ركبهم جثوا وإن فسر بالعموم فالمعنى أنهم يتجاثون عند موافاة شاطئ جهنم أن ‏{‏جثيا‏{‏ حال مقدرة كما كانوا في الموقف متجاثين لأنه من توابع التواقف للحساب، قبل التواصل إلى الثواب والعقاب ويقال‏:‏ إن معنى ‏{‏ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا‏{‏ أي جثيا على ركبهم عن مجاهد وقتادة أي أنهم لشدة ما هم فيه لا يقدرون على القيام ‏{‏وحول جهنم‏{‏ يجوز أن يكون داخلها كما تقول‏:‏ جلس القوم حول البيت أي داخله مطيفين به فقوله ‏(‏حول جهنم‏)‏ على هذا يجوز أن يكون بعد الدخول ويجوز أن يكون قبل الدخول و‏{‏جثيا‏{‏ جمع جاث‏.‏ يقال جثا على ركبتيه يجثو ويجثي جثوا وجثيا على فعول فيهما وأجثاه غيره وقوم جثي أيضا مثل جلس جلوسا وقوم جلوس وجثي أيضا بكسر الجيم لما بعدها من الكسر وقال ابن عباس‏{‏جثيا‏{‏ جماعات وقال مقاتل‏:‏ جمعا جمعا وهو على هذا التأويل جمع وجثوة ثلاث لغات وهي الحجارة المجموعة والتراب المجموع فأهل الخمر على حدة وأهل الزنى على حدة وهكذا قال طرفة‏:‏

ترى جثوتين من تراب عليها صفائح صم من صفيح منضد

وقال الحسن والضحاك جاثية الركب وهو على هذا التأويل جمع جاث على ما تقدم وذلك لضيق المكان أي لا يمكنهم أن يجلسوا جلوسا تاما وقيل جثيا على ركبهم للتخاصم كقوله تعالى ‏{‏ثم إنكم يوم لقيامة عند ربكم تختصمون‏{‏ وقال الكميت‏:‏

هم تركوا سراتهم جثيا وهم دون السراة مقرنينا

قوله تعالى‏{‏ثم لننزعن من كل شيعة‏{‏ أي لنستخرجن من كل أمة وأهل دين‏.‏ ‏{‏أيهم أشد على الرحمن عتيا‏{‏ النحاس‏:‏ وهذه آية مشكلة في الإعراب لأن القراء كلهم يقرؤون ‏{‏أيهم‏{‏ بالرفع إلا هارون القارئ الأعور فإن سيبويه حكى عنه ‏{‏ثم لننزعن من كل شيعة أيهم‏{‏ بالنصب أوقع على أيهم لننزعن‏.‏ قال أبو إسحاق في رفع ‏{‏أيهم‏{‏ ثلاثة أقوال؛ قال الخليل بن أحمد حكاه عنه سيبويه‏:‏ إنه مرفوع على الحكاية والمعنى ثم لننزعن من كل شيعة الذي يقال من أجل عتوه أيهم أشد على الرحمن عتيا وأنشد الخليل فقال‏:‏

ولقد أبيت من الفتاة بمنزل فأبيت لا حرج ولا محروم

أي فأبيت بمنزلة الذي يقال له لا هو حرج ولا محروم‏.‏ وقال أبو جعفر النحاس‏:‏ ورأيت أبا إسحاق يختار هذا القول ويستحسنه قال لأنه معنى قول أهل التفسير وزعم أن معنى ‏{‏ثم لننزعن من كل شيعة‏{‏ ثم لننزعن من كل فرقة الأعتى فالأعتى‏.‏ كأنه يبتدأ بالتعذيب بأشدهم عتيا ثم الذي يليه وهذا نص كلام أبي إسحاق في معنى الآية‏.‏ وقال يونس‏{‏لننزعن‏{‏ بمنزلة الأفعال التي تلغى ورفع ‏{‏أيهم‏{‏ على الابتداء المهدوي والفعل هو ‏{‏لننزعن‏{‏ عند يونس معلق قال أبو علي‏:‏ معنى ذلك أنه يعمل في موضع ‏{‏أيهم أشد‏{‏ لا أنه ملغى‏.‏ ولا يلعق عند الخليل وسيبويه مثل ‏{‏لننزعن‏{‏ إنما يعلق بأفعال الشك وشبهها ما لم يتحقق وقوعه وقال سيبويه‏{‏أيهم‏{‏ مبني على الضم لأنها خالفت أخواتها في الحذف؛ لأنك لو قلت‏:‏ رأيت الذي أفضل ومن أفضل كان قبيحا، حتى تقول من هو أفضل، والحذف في ‏{‏أيهم‏{‏ جائز‏.‏ قال أبو جعفر‏:‏ وما علمت أحدا من النحويين إلا وقد خطأ سيبويه في هذا وسمعت أبا إسحاق يقول‏:‏ ما يبين لي أن سيبويه غلط في كتابه إلا في موضعين هذا أحدهما؛ قال وقد علمنا أن سيبويه أعرب أيا وهى مفردة لأنها تضاف، فكيف يبنيها وهي مضافة‏؟‏ ‏!‏ ولم يذكر أبو إسحاق فيما علمت إلا هذه الثلاثة الأقوال أبو علي إنما وجب البناء على مذهب سيبويه لأنه حذف منه ما يتعرف به وهو الضمير مع افتقار إليه كما حذف في ‏{‏من قبل ومن بعد‏{‏ ما يتعرفان به مع افتقار المضاف إلى المضاف إليه لأن الصلة تبين الموصول وتوضحه كما أن المضاف إليه يبين المضاف ويخصصه قال أبو جعفر وفيه أربعة أقوال سوى هذه الثلاثة التي ذكرها أبو إسحاق قال الكسائي ‏{‏لننزعن‏{‏ واقعة على المعنى كما تقول لبست من الثياب وأكلت من الطعام، ولم يقع ‏{‏لننزعن‏{‏ على ‏{‏أيهم‏{‏ فينصبها‏.‏ زاد المهدوي‏:‏ وإنما الفعل عنده واقع على موضع ‏{‏من كل شيعة‏{‏ وقوله‏{‏أيهم أشد‏{‏ جملة مستأنفة مرتفعة بالابتداء ولا يرى سيبويه زيادة ‏{‏من‏{‏ في الواجب وقال الفراء المعنى ثم لننزعن بالنداء ومعنى ‏{‏لننزعن‏{‏ لننادين المهدى ونادى فمل يعلق إذا كان بعده جملة كظننت فتعمل في المعنى ولا تعمل في اللفظ قال أبو جعفر وحكى أبو بكر بن شقير أن بعض الكوفيين يقول في ‏{‏أيهم‏{‏ معنى الشرط والمجازاة فلذلك لم يعمل فيها ما قبلها والمعنى ثم لننزعن من كل فرقة إن تشايعوا أو لم يتشايعوا كما تقول ضربت القوم أيهم غضب والمعنى إن غضبوا أو لم يغضبوا قال أبو جعفر فهذه ستة أقوال وسمعت علي بن سليمان يحكي عن محمد بن يزيد قال ‏{‏أيهم‏{‏ متعلق ‏{‏بشيعة‏{‏ فهو مرفوع بالابتداء والمعنى ثم لننزعن من الذين تشايعوا أيهم أي من الذين تعاونوا فنظروا أيهم أشد على الرحمن عتيا وهذا قول حسن وقد حكى الكسائي أن التشايع التعاون و‏{‏عتيا‏{‏ نصب على البيان

قوله تعالى‏{‏ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا‏{‏ أي أحق بدخول النار يقال صلى يصلى صليا ونحو مضى الشيء يمضي مضيا إذا ذهب وهوى يهوي هويا وقال الجوهري ويقال صليت الرجل نارا إذا أدخلته النار وجح لحته يصلاها فإن ألقيته فيها إلقاء كأنك تريد الإحراق قلت‏:‏ أصليته بالألف وصليته تصلية وقرئ ‏{‏ويصلى سعيرا‏{‏ ومن خفف فهو من قولهم‏:‏ صلي فلان بالنار ‏(‏بالكسر‏)‏ يصلى صليا أحترق قال الله تعالى ‏{‏هم أولى بها صليا‏{‏ قال العجاج

والله لولا النار أن نصلاها

ويقال أيضا صلي بالأمر إذا قاسى حره وشدته قال الطهوي

ولا تبلى بسالتهم وإن هم صلوا بالحرب حينا بعد حين

واصطليت بالنار وتصليت بها قال أبو ربيد‏:‏

وقد تصليت حر حربهم كما تصلى المقرور من قرس

وفلان لا يصطلى بناره إذا كان شجاعا لا يطاق‏.‏

 

">الآية رقم ‏(‏ 71 ‏:‏ 72 ‏)‏">

الآية رقم ‏(‏ 71 ‏:‏ 72 ‏)‏

‏{‏وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا، ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا‏}‏

قوله تعالى ‏{‏وإن منكم‏{‏ هذا قسم والواو ينضمنه ويفسره حديث النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم‏)‏ قال الزهري‏:‏ كأنه يريد هذه الآية ‏(‏وإن منكم إلا واردها‏)‏ ذكره داود الطيالسي فقوله ‏{‏إلا تحلة القسم‏{‏ يخرج في التفسير المسند لأن القسم المذكور هذا الحديث معناه عند أهل العلم قوله تعالى ‏{‏وإن منكم إلا واردها‏{‏ وقد قيل إن المراد بالقسم قوله تعالى ‏{‏والذاريات ذروا‏{‏ إلى قوله ‏{‏إنما توعدون لصادق وإن الدين لواقع والأول أشهر؛ والمعنى متقارب

واختلف الناس في الورود فقيل الورد الدخول روي عن جابر بن عبدالله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‏(‏الورود الدخول لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم ‏{‏ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا‏{‏ أسنده أبو عمر في كتاب ‏{‏التمهيد‏{‏ وهو قول ابن عباس وخالد بن معدان وابن جريج وغيرهم وروي عن يونس أنه كان يقرأ ‏{‏وإن منكم إلا واردها‏{‏ الورود الدخول على التفسير للورود فغلط فيه بعض الرواة فألحقه بالقرآن وفي الدارمي عن عبدالله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏يرد الناس النار ثم يصدرون منها بأعمالهم فمنهم كلمح البصر ثم كالريح ثم كحضر الفرس ثم كالراكب المجد في رحله ثم كشد الرجل في مشيته‏)‏ وروي عن ابن عباس أنه قال في هذه المسألة لنافع بن الأزرق الخارجي ‏(‏أما أنا وأنت فلا بد أن نردها أما أنا فينجيني الله منها وأما أنت فما أظنه ينجيك لتكذيبك‏)‏ وقد أشفق كثير من العلماء من تحقق الورود والجهل بالصدر وقد بيناه في ‏{‏التذكرة‏{‏ وقالت فرقة الورود الممر على الصراط وروي عن ابن عباس وابن مسعود وكعب الأحبار والسدي ورواه السدي ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم وقاله الحسن أيضا قال ‏(‏ليس الورود الدخول إنما تقول وردت البصرة ولم أدخلها قال فالورود أن يمروا على الصراط‏)‏ قال أبو بكر الأنباري وقد بنى على مذهب الحسن قوم من أهل اللغة واحتجوا بقول الله تعالى‏{‏إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون‏{‏ قالوا‏:‏ فلا يدخل النار من ضمن الله أن يبعده منها وكان هؤلاء يقرؤون ‏{‏ثم‏{‏ بفتح الثاء ‏{‏ننجي الذين اتقوا‏{‏ واحتج عليهم الآخرون أهل المقالة الأولى بأن معنى قوله‏{‏أولئك عنها مبعدون‏{‏ عن العذاب فيها والإحراق بها قالوا فمن دخلها وهو لا يشعر بها ولا يحس منها وجعا ولا ألما فهو مبعد عنها في الحقيقة ويستدلون بقوله تعالى ‏{‏ثم ننجي الذين اتقوا‏{‏ بضم الثاء فـ ‏{‏ثم‏{‏ تدل على نجاء بعد الدخول‏.‏

قلت وفي صحيح مسلم ‏(‏ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة فيقولون اللهم سلم سلم‏)‏ قيل‏:‏ يا رسول الله وما الجسر‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏دحض مزلة فيه خطاطيف وكلاليب وحسك تكون بنجد فيها شويكة يقال لها السعدان فيمر المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب فناج مسلم ومخدوش مرسل ومكدوس في نار جهنم‏)‏ الحديث وبه احتج من قال إن الجواز على الصراط هو الورود الذي تضمنه هذه الآية لا الدخول فيها وقالت فرقة بل هو ورود إشراف واطلاع وقرب وذلك أنه يحضرون موضع الحساب وهو بقرب جهنم فيرونها وينظرون إليها في حالة الحساب ثم ينجي الله الذين اتقوا مما نظروا إليه ويصار بهم إلى الجنة ‏{‏ونذر الظالمين‏{‏ أي يؤمر بهم إلى النار قال الله تعالى ‏{‏ولما ورد ماء مدين‏)‏ أي أشرف عليه لا أنه دخله وقال زهير‏:‏

فلما وردن الماء زرقا جمامه وضعن عصي الحاضر المتخيم

وروت حفصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏(‏لا يدخل النار أحد من أهل بدر والحديبية‏)‏ قالت فقلت يا رسول الله وأين قول الله تعالى ‏{‏وإن منكم إلا واردها‏{‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏فَمَهْ ‏{‏ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا‏{‏‏)‏ أخرجه مسلم من حديث أم مبشر قالت سمعت النبي صلى الله عليه وسلم عند حفصة الحديث ورجح الزجاج هذا القول بقوله تعالى ‏{‏إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون‏{‏ وقال مجاهد‏:‏ ورود المؤمنين النار هو الحمى التي تصيب المؤمن في دار الدنيا، وهي حظ المؤمن من النار فلا يردها‏.‏ روى أبو هريرة أن رسول الله صلى عليه وسلم عاد مريضا من وعك به فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏أبشر فإن الله تبارك وتعالى يقول ‏{‏هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن لتكون حظه من النار‏{‏‏)أسنده أبو عمر قال‏:‏ حدثنا عبدالوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل الصائغ قال حدثنا أبو أسامة قال حدثنا عبدالرحمن بن يزيد بن جابر عن إسماعيل بن عبيدالله ‏(‏عن أبي صالح‏)‏ الأشعري عن أبي هريرة عن النبي عاد مريضا وفي كره وفي الحديث ‏(‏الحمى حظ المؤمن من النار‏)‏ وقالت فرقة الورود النظر إليها في القبر فينجي منها الفائز ويصلاها من قدر عليه دخولها، ثم يخرج منها بالشفاعة أو بغيرها من رحمة الله تعالى واحتجوا بحديث ابن عمر‏:‏ ‏(‏إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة والعشي‏)‏ الحديث وروى وكيع عن شعبة عن عبدالله بن السائب عن رجل عن ابن عباس أنه قال في قول الله تعالى‏:‏ ‏(‏وإن منكم إلا واردها‏)‏ قال‏:‏ هذا خطاب للكفار‏.‏ وروي عنه أنه كان يقرأ ‏{‏وإن منكم‏}ردا على الآيات التي قبلها في الكفار‏:‏ قوله ‏{‏فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا وإن منهم‏)‏ ‏(‏مريم‏:‏ 68‏]‏ وكذلك قرأ عكرمة وجماعة وعليها فلا شعب في هذه القراءة وقالت فرقة المراد بـ ‏(‏منكم‏)‏ الكفرة والمعنى قل لهم يا محمد وهذا التأويل أيضا سهل التناول والكاف في ‏(‏منكم‏)‏ راجحة إلى الهاء في ‏(‏لنحشرنهم والشياطين‏.‏ ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا‏)‏ فلا ينكر رجوع الكاف إلى الهاء؛ فقد عرف ذلك في قوله عز وجل ‏{‏وسقاهم ربهم شرابا طهورا‏.‏ إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا‏}‏الإنسان‏:‏21 - 22‏]‏ معناه كان لهم فرجعت الكاف إلى الهاء‏.‏ وقال الأكثر‏:‏ المخاطب العالم كله بد من ورود الجميع وعليه نشأ الخلاف في الورود وقد بينا أقوال العلماء فيه وظاهر الورود الدخول لقول عليه الصلاة والسلام ‏(‏فتمسه النار‏)‏ لأن المسيس حقيقته في اللغة المماسة إلا أنها تكون بردا وسلاما على المؤمنين وينجون منها سالمين قال خالد بن معدان‏:‏ إذا دخل أهل الجنة الجنة قالوا ألم يقل ربنا إنا نرد النار‏؟‏ فيقال لقد وردتموها فألقيتموها رمادا‏.‏

قلت‏:‏ وهذا القول يجمع شتات لأقوال فإن من وودها ولم تؤذه بلهبها وحرها فقد أبعد عنها ونجي منها نجانا الله تعالى منها وكرمه وجعلنا ممن وردها فدخلها سالما وخرج منها غانما‏.‏ فان قيل‏:‏ فهل يدخل الأنبياء النار‏؟‏ قلنا لانطلق هذا ولكن نقول‏:‏ إن الخلق جميعا يردونها كما دل عليه حديث جابر أول الباب فالعصاة يدخلونها بجرائمهم، والأولياء والسعداء لشفاعتهم فبين الدخولين بون وقال ابن الأنباري محتجا لمصحف عثمان وقراءة العامة جائز في اللغة أن يرجع من خطاب الغيبة إلى لفظ المواجهة بالخطاب كما قال ‏(‏وسقاهم ربهم شرابا طهورا‏.‏ إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا‏)‏ فأبدل الكاف من الهاء‏.‏ وقد تقدم هذا المعنى في ‏(‏يونس‏)‏‏.‏

الاستثناء في قوله عليه السلام ‏(‏إلا تحلة القسم‏)‏ يحتمل أن يكون استثناء منقطعا لكن تحلة القسم وهذا معروف في كلام العرب والمعنى ألا تمسه النار أصلا وتم الكلام هنا ثم ابتدأ ‏(‏إلا تحلة القسم‏)‏ أي لكن تحله القسم لابد منها في قوله تعالى ‏{‏وإن منكم إلا واردها‏{‏ وهو الجواز على الصراط أو الرؤية أو الدخول دخول سلامة، فلا يكون في ذلك شيء من مسيس لقوله عليه الصلاة والسلام ‏(‏لا يموت لأحدكم ثلاثة من الولد فيحتسبهم إلا كانوا له جنة من النار‏)‏ والجنة الوقاية والستر ومن وقي النار سترعنها فلن تمسه أصلا ولو مسته لما كان موقى

هذا الحديث يفسر الأول لأن فيه ذكر الحسبة؛ ولذلك جعله مالك بأثره مفسرا له ويقيد هذا الحديث الثاني أيضا مارواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث كان له حجابا من النار أو دخل الجنة‏)‏ فقوله عليه السلام ‏(‏لم يبلغوا الحنث‏)‏ ومعناه عند أهل العلم لم يبلغوا الحلم ولم يبلغوا أن يلزمهم حنث دليل على أن أطفال المسلمين في الجنة والله أعلم لأن الرحمة إذا نزلت بآبائهم استحال أن يرحموا من أجل ‏(‏من‏)‏ ليس بمرحوم‏.‏ وهذا إجماع من العلماء في أن أطفال المسلمين في الجنة ولم يخالف في ذلك إلا فرقة شذت من الجبرية فجعلتهم المشيئة وهو قول مهجور مردود بإجماع الحجة الذين لا تجوز مخالفتهم، ولا يجوز على مثلهم إلى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من أخبار الآحاد الثقات العدول؛ وأن قوله عليه الصلاة والسلام ‏(‏الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه وأن الملك ينزل فيكتب أجله وعمله ورزقه‏)‏ الحديث مخصوص، وأن من مات من أطفال المسلمين قبل الاكتساب فهو ممن سعد في بطن أمه ولم يثق بدليل الأحاديث والإجماع وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله تعالى عنها‏:‏ ‏(‏يا عائشة إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم وخلق النار وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم‏)‏ ساقط ضعيف مردود بالإجماع والآثار وطلحة بن يحيى الذي يرويه ضعيف لا يحتج به وهذا الحديث مما انفرد به فلا يعرج عليه‏.‏ وقد روى شعبة عن معاوية بن قرة بن إياس المزني عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا من الأنصار مات له ابن صغير فوجد عليه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏أما يسرك ألا تأتى بابا من أبواب الجنة إلا وجدته يستفتح لك‏)‏ فقالوا يا رسول الله أله خاصة أم للمسلمين عامة‏؟‏ قال ‏(‏بل للمسلمين عامة‏)‏ قال أبو عمر هذا حديث ثابت صحيح يعني ما ذكرناه مع إجماع الجمهور؛ وهو يعارض حديث يحيى ويدفعه قال أبو عمر‏:‏ الوجه عندي في هذا الحديث وما أشبهه من الآثار أنها لمن حافظ على أداء فرائضه واجتنب الكبائر، وصبر واحتسب في مصيبته؛ فإن الخطاب لم يتوجه في ذلك العصر إلا إلى قوم الأغلب من أمرهم ما وصفنا وهم الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين وذكر النقاش عن بعضهم أنه قال‏:‏ نسخ قوله تعالى ‏{‏وإن منكم إلا واردها‏{‏ قوله ‏{‏إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون‏}‏الأنبياء‏:‏101‏]‏ وهذا ضعيف، وهذا ليس موضع نسخ‏.‏ وقد بينا أنه إذا لم تمسه النار فقد أبعد عنها وفي الخبر‏:‏ ‏(‏تقول النار للمؤمن يوم القيامة جزيا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي‏)‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏كان على ربك حتما مقضيا‏{‏ الحتم إيجاب القضاء أي كان ذلك حتما‏.‏ ‏{‏مقضيا‏{‏ أي قضاه الله تعالى عليكم وقال ابن مسعود أي قسما واجبا‏{‏ ثم ننجي الذين اتقوا‏{‏ أي نخلصهم ‏{‏ونذر الظالمين فيها جثيا‏{‏ وهذا مما يدل على أن الورود الدخول لأنه لم يقل وندخل الظالمين وقد مضى هذا المعنى مستوفى‏.‏ والمذهب أن صاحب الكبيرة وإن دخلها فإنه يعاقب بقدر ذنبه ثم ينجو وقالت المرجئة لا يدخل‏.‏ وقالت الوعيدية‏:‏ يخلد وقد مضى بيان هذا في غير موضع وقرأ عاصم الجحدري ومعاوية بن قرة ‏{‏ثم ننجي‏{‏ مخففة من أنجى وهي قراءة حميد ويعقوب والكسائي وثقل الباقون وقرأ ابن أبي ليلى ‏{‏ثمه‏{‏ بفتح الثاء أي هناك و‏{‏ثم‏{‏ ظرف إلا أنه مبني لأنه غير محصل فبني كما بني ذا؛ والهاء يجوز أن تكون لبيان الحركة فتحذف في الوصل ويجوز أن تكون لتأنيث البقعة فشبت في الوصل تاء‏.‏

 

">الآية رقم ‏(‏ 73 ‏:‏ 74 ‏)‏">

الآية رقم ‏(‏ 73 ‏:‏ 74 ‏)‏

‏{‏وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا، وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات‏{‏ أي على الكفار الذين سبق ذكرهم في قوله تعالى ‏{‏أئذا ما مت لسوف أخرج حيا‏}‏مريم‏:‏ 66‏]‏ وقال فيهم ‏{‏ونذر الظالمين فيها جثيا‏{‏ أي هؤلاء إذا قرئ عليهم القرآن تعززوا بالدنيا، وقالوا‏:‏ فما بالنا إن كنا على باطل أكثر أموالا وأعز نقرا وغرضهم إدخال الشبهة المستضعفين وإيهامهم أن من كثر ماله دل ذلك على أنه المحق في دينه وكأنهم لم يروا فيهم فقيرا ولا في المسلمين غنيا ولم يعلموا أن الله تعالى نحى أولياءه عن الاغترار بالدنيا وفرط الميل إليها‏.‏ و‏{‏بينات‏{‏ معناه مرتلات الألفاظ ملخصة المعاني، مبينات المقاصد؛ إما محاكمات، أو متشابهات قد تبعها البيان بالمحكمات، أو تبيين الرسول صلى قولا أو فعلا أو ظاهرات الإعجاز تحدى بها فلم يقدر على معارضتها‏.‏ أو حججا وبراهين‏.‏ والوجه أن تكون حالا مؤكدة كقوله تعالى ‏{‏وهو الحق مصدقا‏{‏ لأن آيات الله تعالى لا تكون إلا واضحة‏.‏ ‏{‏قال الذين كفروا‏{‏ يريد مشركي قريش النضر بن الحرث وأصحابه‏.‏ ‏{‏للذين آمنوا‏{‏ يعني فقراء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكانت فيهم قشافة، وفي عيشهم خشونة وفي ثيابهم رثاثة وكان المشركون يرجلون شعورهم ويدهنون رؤوسهم ويلبسون خير ثيابهم، فقالوا للمؤمنين ‏{‏أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا‏{‏ قرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد وشبل بن عباد ‏{‏مقاما‏{‏ بضم الميم وهو موضع الإقامة‏.‏ ويجوز أن يكون مصدرا بمعنى الإقامة الباقون ‏{‏مقاما‏{‏ بالفتح؛ أي منزلا ومسكنا‏.‏ وقيل‏:‏ المقام الموضع الذي يقام فيه بالأمور الجليلة؛ أي أي الفريقين أكثر جاها وأنصارا‏.‏ ‏{‏وأحسن نديا‏{‏ أي مجلسا؛ عن ابن عباس وعنه أيضا المنظر وهو المجلس في اللغة وهو النادي ومنه دار الندوة لأن المشركين كانوا يتشاورون فيها في أمورهم وناداه جالسه في النادي قال

أنادي به آل الوليد وجعفرا

والندي على فعيل مجلس القوم ومتحدثهم، وكذلك الندوة والنادي (3) والمتندى، فإن تفرق القوم فليس بندي قاله الجوهري‏.‏

قوله تعالى‏{‏وكم أهلكنا قبلهم من قرن‏{‏ أي من أمة وجماعة‏.‏ ‏{‏هم أحسن أثاثا ورئيا

أي متاعا كثيرا؛ قال‏:‏

وفرع يزين المتن أسود فاحم أثيث كقنو النخلة المتعثكل

والأثاث متاع البيت‏.‏ وقيل‏:‏ هو ماجد الجراثي والخرثي ما لبس منها وأنشد الحسن بن علي الطوسي فقال‏:‏

تقادم العهد من أم الوليد بنا دهرا وصار أثاث البيت خرثيا

وقال ابن عباس‏:‏ هيئة مقاتل ثيابا ‏{‏ورئيا‏{‏ أي منظرا حسنا‏.‏ وفيه خمس قراءات قرأ أهل المدينة ‏{‏وريا‏{‏ بغير همز‏.‏ وقرأ أهل الكوفة ‏{‏ورئيا‏{‏ بالهمز‏.‏ وحكى يعقوب أن طلحة قرأ ‏{‏وريا‏{‏ بياء واحدة مخففة‏.‏ وروى سفيان عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس ‏{‏هم أحسن أثاثا وزيا‏{‏ بالزاي؛ فهذه أربع قراءات قال أبو إسحاق ويجوز ‏{‏هم أحسن أثاثا وريئا‏{‏ بياء بعدها همزة‏.‏ النحاس‏:‏ وقراءة أهل المدينة في هذا حسنة وفيها تقريران‏:‏ أحدهما‏:‏ أن تكون من رأيت ثم خففت الهمزة فأبدل منها ياء وأدغمت الياء في الياء‏.‏ وكان هذا حسنا لتتفق رؤوس الآيات لأنها غير مهموزات‏.‏ وعلى هذا قال ابن عباس‏:‏ ‏(‏الرئي المنظر‏)‏ فالمعنى‏:‏ هم أحسن أثاثا ولباسا‏.‏ والوجه الثاني‏:‏ أن جلودهم مرتوية من النعمة؛ فلا يجوز الهمز على هذا‏.‏ وفي رواية ورش عن نافع وابن ذكوان عن ابن عامر ‏{‏ورئيا‏{‏ بالهمز تكون على الوجه الأول‏.‏ وهي قراءة أهل الكوفة وأبي عمرو من رأيت على الأصل‏.‏ وقراءة طلحة بن مصرف ‏(‏وريا‏)‏ بياء واحدة مخففة أحسبها غلطا‏.‏ وقد زعم بعض النحويين أنه كان أصلها الهمز فقلبت الهمزة ياء، ثم حذفت إحدى اليائين‏.‏ المهدوي‏:‏ ويجوز أن يكون ‏{‏ريئا‏{‏ فقلبت ياء فصارت رييا ثم نقلت حركة الهمزة على الياء وحذفت‏.‏ وقد قرأ بعضهم ‏{‏وريا‏{‏ على القلب وهي القراءة الخامسة‏.‏ وحكى سيبويه راء بمعنى رأى‏.‏ الجوهري‏:‏ من همزه جعله من المنظر من رأيت، وهو ما رأته العين من حال حسنة وكسوة ظاهرة وأنشد أبو عبيدة لمحمد بن نمير الثقفي فقال‏:‏

أشاقتك الظعائن يوم بانوا بذي الرئي الجميل من الأثاث

ومن لم يهمز إما أن يكون على تخفيف الهمزة أو يكون من رويت ألوانهم وجلودهم ريا؛ أي امتلأت وحسنت‏.‏ وأما قراءة ابن عباس وأبي بن كعب وسعيد بن جبير والأعسم المكي ويزيد البربري ‏{‏وزيا‏{‏ بالزاي فهو الهيئة والحسن‏.‏ ويجوز أن يكون من زويت أي جمعت؛ فيكون أصلها زيا فقلبت الواو ياء‏.‏ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏زويت لي الأرض‏)‏ أي جمعت؛ أي فلم يغن ذلك عنهم شيئا من عذاب الله تعالى؛ فليعش هؤلاء ما شاؤوا فمصيرهم إلى الموت والعذاب وإن عمروا؛ أو العذاب العاجل يأخذهم الله تعالى به‏.‏

 

">الآية رقم ‏(‏ 75 ‏)‏">

الآية رقم ‏(‏ 75 ‏)‏

‏{‏قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا‏}‏

قوله تعالى‏{‏قل من كان في الضلالة‏{‏ أي في الكفر ‏{‏فليمدد له الرحمن مدا‏{‏ أي فليدعه في طغيان جهله وكفره فلفظه لفظ الأم ومعناه الخبر أي من كان الضلالة مده الرحمن مدا حتى يطول اغتراره فيكون ذلك اشد لعقابه نظيره ‏{‏إنما نملي لهم ليزدادوا إثما‏}‏آل عمران‏:‏178‏]‏ وقوله‏{‏ونذرهم في طغيانهم يعمهون‏}‏الأنعام‏:‏ 110‏]‏ ومثله كثير؛ أي فليعش ما شاء، وليوسع لنفسه في العمر؛ فمصيره إلى الموت والعقاب‏.‏ وهذا غاية في التهديد والوعيد‏.‏ وقيل‏:‏ هذا دعاء أم به النبي صلى الله عليه وسلم؛ تقول‏:‏ من سرق مالي فليقطع الله تعالى يده؛ فهو دعاء على السارق‏.‏ وهو جواب الشرط وعلى هذا فليي ‏؟‏‏؟‏ قوله ‏{‏فليمدد‏{‏ خبرا‏.‏ ‏{‏حتى إذا رأوا ما يوعدون‏{‏ قال ‏{‏رأوا‏{‏ لأن لفظ ‏{‏من‏{‏ يصلح للواحد والجمع‏.‏ و‏{‏إذا‏{‏ مع الماضي بمعنى المستقبل؛ أي حتى يروا ما يوعدون والعذاب هنا إما أن يكون بنصر المؤمنين عليهم فيعذبونهم بالسيف والأسر؛ وإما أن تقوم الساعة فيصيرون إلى النار‏.‏ ‏{‏فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا

أي تنكشف حينئذ الحقائق وهذا رد لقولهم‏:‏ ‏(‏أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا‏)‏‏.‏

 

">الآية رقم ‏(‏ 76 ‏)‏">

الآية رقم ‏(‏ 76 ‏)‏

‏{‏ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا‏}‏

قوله تعالى‏{‏ويزيد الله الذين اهتدوا هدى‏{‏ أي ويثبت الله المؤمنين على الهدى ويزيدهم في النصرة وينزل من الآيات ما يكون سبب زيادة اليقين مجازاة لهم وقيل يزيدهم هدى بتصديقهم بالناسخ والمنسوخ الذي كفر به غيرهم قال معناه الكلبي ومقاتل ويحتمل ثالثا أي ‏{‏ويزيد الله الذين اهتدوا‏{‏ إلى الطاعة ‏{‏هدى‏{‏ إلى الجنة والمعنى متقارب وقد تقدم القول في معنى زيادة الأعمال وزيادة الإيمان الهدي في ‏{‏آل عمران‏{‏ وغيرها ‏{‏والباقيات الصالحات‏{‏ تقدم‏.‏ ‏{‏خير عند ربك ثوابا‏{‏ أي جزاء ‏{‏وخير مردا‏{‏ أي في الآخرة مما افتخر به الكفار في الدنيا‏.‏ و‏(‏المرد‏)‏ مصدر كالرد؛ أي وخير ردا على عاملها بالثواب؛ يقال هذا أرد عليك أي أنقع لك‏.‏ وقيل ‏{‏خير مردا‏{‏ أي مرجعا فكل أحد يرد إلى عمله الذي عمله‏.‏

 

">الآية رقم ‏(‏ 77 ‏:‏ 80 ‏)‏">

الآية رقم ‏(‏ 77 ‏:‏ 80 ‏)‏

‏{‏أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا، أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا، كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا، ونرثه ما يقول ويأتينا فردا‏}‏

قوله تعالى‏{‏أفرأيت الذي كفر بآياتنا‏{‏ روى الأئمة واللفظ لمسلم عن خباب قال كان لي على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه فقال لي لن أقضيك حتى تكفر بمحمد قال‏:‏ قلت له لن أكفر به حتى تموت ثم تبعث قال وإني لمبعوث من بعد الموت‏؟‏ ‏!‏ فسوف أقضيك إذا رجعت إلى مال وولد‏.‏ قال وكيع‏:‏ كذا قال الأعمش؛ فنزلت هذه الآية‏{‏أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا إلى قوله ‏{‏ويأتينا فردا‏{‏ في رواية قال كنت قينا في الجاهلية فعملت للعاص بن وائل عملا، فأتيته أتقاضاه خرجه البخاري أيضا وقال الكلبي ومقاتل‏:‏ كان خباب قينا فصاغ للعاص حليا ثم تقاضاه أجرته فقال العاص ما عندي اليوم ما أقضيك فقال خباب لست بمفارقك حتى تقضيني فقال العاص يا خباب ما لك‏؟‏ ‏!‏ ما كنت هكذا، وأن كنت لحسن الطلب‏.‏ فقال خباب‏:‏ إني كنت على دينك فأنا اليوم على دين الإسلام مفارق لدينك، قال أو لستم تزعمون أن في الجنة ذهبا وفضة وحريرا‏؟‏ قال خباب‏:‏ بلى قال فأخرني حتى أقضيك في الجنة - استهزاء فوالله لئن كان ما تقول حقا إني لأقضيك فيها، فو الله لا تكون أنت يا خباب وأصحابك أولى بها مني، فأنزل الله تعالى ‏{‏أفرأيت الذي كفر بآياتنا‏{‏ يعني العاص بن وائل الآيات ‏{‏أطلع الغيب‏{‏ قال ابن عباس‏:‏‏(‏أنظر في اللوح المحفوظ‏)‏ ‏؟‏ ‏!‏ وقال مجاهد‏:‏ أعلم الغيب حتى يعلم أفي الجنة هو أم لا‏؟‏ ‏!‏ ‏{‏أم اتخذ عند الرحمن عهدا‏{‏ قال قتادة والثوري أي عملا صالحا وقيل هو التوحيد وقيل هو من الوعد وقال الكلبي عاهد الله تعالى أن يدخله الجنة ‏{‏كلا‏{‏ رد عليه أي لم يكن ذلك لم يطلع الغيب ولم يتخذ عند الرحمن عهدا وتم الكلام عند قول ‏{‏كلا‏{‏ وقال الحسن إن الآيات نزلت في الوليد بن المغيرة والأول أصح لأنه مدون في الصحاح وقرأ حمزة والكسائي ‏{‏وولدا‏{‏ بضم الواو، والباقون بفتحها‏.‏ واختلف في الضم والفتح على وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنهما لغتان معناهما واحد يقال ولد وولد كما يقال عدم وعدم وقال الحرث بن حلزة‏:‏

ولقد رأيت معاشرا قد ثمروا مالا وولدا

وقال آخر‏:‏

فليت فلانا كان في بطن أمه وليت فلانا كان ولد حمار

والثاني‏:‏ أن قيسا تجعل الولد بالضم جمعا والولد بالفتح واحدا قال الماوردي وفي قوله تعالى ‏{‏لأوتين مالا وولدا‏{‏ وجهان أحدهما أنه أراد في الجنة استهزاء بما وعد الله تعالى على طاعته وعبادته؛ قاله الكلبي‏.‏ الثاني‏:‏ أنه أراد في الدنيا وهو قول الجمهور وفيه وجهان محتملان أحدهما إن أقمت على دين آبائي وعبادة آلهتي لأوتين مالا وولدا الثاني‏:‏ ولو كنت على باطل لما أوتيت مالا وولدا‏.‏

قلت‏:‏ قول الكلبي أشبه بظاهر الأحاديث بل نصها يدل على ذلك قال مسروق سمعت خباب بن الأرت يقول جئت العاصي بن وائل السهمي أتقاضاه حقا عنده فقال‏:‏ لا أعطيك حتى تكفر بمحمد فقلت لا حتى تموت ثم تبعث قال وإني لميت ثم مبعوث ‏؟‏‏!‏ فقلت نعم فقال إن لي هناك مالا وولدا فأقضيك فنزلت هذه الآية قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح

قوله تعالى‏{‏أطلع الغيب‏{‏ ألفه ألف استفهام لمجيء ‏{‏أم‏{‏ بعدها ومعناه التوبيخ وأصله أأطلع فحذفت الألف الثانية لأنها ألف وصل فإن قيل فهلا أتوا بمدة بعد الألف فقالوا آطلع كما قالوا ‏{‏الله خير‏{‏ ‏{‏آلذكرين حرم‏{‏ قيل له كان الأصل في هذا‏{‏أألله‏{‏ ‏{‏أألذكرين‏{‏ فأبدلوا من الألف الثانية مدة ليفرقوا بين الاستفهام والخبر وذلك أنهم لو قالوا الله خير بلا مد لالتبس الاستفهام بالخبر ولم يحتاجوا إلى هذه المدة في قوله ‏{‏أطلع‏{‏ لأن ألف الاستفهام مفتوحة وألف الخبر مكسورة وذلك أنك تقول في الاستفهام أطلع‏؟‏ أفترى‏؟‏ أصطفى‏؟‏ أستغفرت‏؟‏ بفتح الألف، وتقول في الخبر‏:‏ إطلع، إفترى، إصطفى، إستغفرت لهم بالكسر، فجعلوا الفرق بالفتح والكسر ولم يحتاجوا إلى فرق آخر

قوله تعالى‏{‏كلا‏{‏ ليس في النصف الأول ذكر ‏{‏كلا‏{‏ وإنما جاء ذكره في النصف الثاني وهو يكون بمعنيين أحدهما بمعنى حقل والثاني بمعنى لا فإذا كانت بمعنى حقا جاز الوقف على ما قبله ثم تبتدئ ‏{‏كلا‏{‏ أي حقا وإذا كانت بمعنى لا كان الوقف على ‏{‏كلا‏{‏ جائز كما في هذه الآية لأن المعنى لا ليس الأم كذا ويجوز أن تقف عليه على قوله ‏{‏عهدا‏{‏ وتبتدئ ‏{‏كلا‏{‏ أي حقا ‏{‏سنكتب ما يقول‏{‏ وكذا قوله تعالى ‏{‏لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا‏}‏المؤمنون‏:‏ 100‏]‏ يجوز الوقف على ‏{‏كلا‏{‏ وعلى ‏{‏تركت‏{‏‏.‏ وقوله ‏{‏ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون قال كلا‏{‏ الوقف على ‏{‏كلا‏{‏ لأن المعنى لا وليس الأمر كما تظن ‏{‏فاذهبا‏{‏ فليس للحق في هذا المعنى موضع وقال الفراء ‏{‏كلا‏{‏ بمنزلة سوف لأنها صلة وهي حرف رد فكأنها ‏{‏نعم‏{‏ و‏{‏لا‏{‏ في الاكتفاء قال وإن جعلتها صلة لما بعدها لم تقف عليها كقولك‏:‏ كلا ورب الكعبة؛ لا تقف على كلا لأنه بمنزلة إي ورب الكعبة قال الله تعالى ‏{‏كلا والقمر‏}‏المدثر‏:‏ 32‏]‏ فالوقف على ‏{‏كلا‏{‏ قبيح لأنه صلة لليمين وكان أبو جعفر محمد بن سعدان يقول في ‏{‏كلا‏{‏ مثل قول الفراء وقال الأخفش معنى كلا الردع والزجر وقال أبو بكر بن الأنباري وسمعت أبا العباس يقول لا يوقف على ‏{‏كلا‏{‏ جميع القرآن لأنها جواب والفائدة تقع فيما بعدها والقول الأول هو قول أهل التفسير‏.‏ ‏{‏سنكتب ما يقول‏{‏ أي سنحفظ عليه قوله فنجازيه به في الآخرة ‏{‏ونمد له من العذاب مدا‏{‏ أي سنزيده عذابا فوق عذاب‏{‏ ونرثه ما يقول‏{‏ أي نسلبه ما أعطيناه في الدنيا من مال وولد وقال ابن عباس وغيره ‏(‏نرثه المال والولد بعد إهلاكنا إياه‏)‏ وقيل نحرمه ما تمناه في الآخرة من مال وولد ونجعله لغيره من المسلمين ‏{‏ويأتينا فردا‏{‏ أي منفردا لا مال له ولا ولد ولا عشيرة تنصره

 

">الآية رقم ‏(‏ 81 ‏:‏ 82 ‏)‏">

الآية رقم ‏(‏ 81 ‏:‏ 82 ‏)‏

‏{‏واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا، كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا‏}‏

قوله تعالى‏{‏واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا‏{‏ يعني مشركي قريش و‏{‏عزا‏{‏ معناه أعوانا ومنعة يعني أولادا والعز المطر الجود أيضا قاله الهروي وظاهر الكلام أن ‏{‏عزا‏{‏ راجع إلى الآلهة التي عبدوها من دون الله ووحد لأنه بمعنى المصدر أي لينالوا بها العز ويمتنعون بها من عذاب الله فقال الله تعالى ‏(‏كلا‏)‏ أي ليس الأمر كما ظنوا وتوهموا بل يكفرون بعبادتهم أي ينكرون أنهم عبدوا الأصنام أو تجحد الآلهة عبادة المشركين لها كما قال‏{‏تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون‏}‏القصص‏:‏63‏]‏ وذلك أن الأصنام جمادات لا تعلم العبادة ‏{‏ويكونون عليهم ضدا‏{‏ أي أعوانا في خصومتهم وتكذيبهم عن مجاهد والضحاك يكونون لهم أعداء ابن زيد يكون عليهم بلاء فتحشر آلهتهم وتركب لهم عقول فتنطق وتقول‏:‏ يا رب عذب هؤلاء الذين عبدونا من دونك و‏{‏كلا‏{‏ هنا يحتمل أن تكون بمعنى لا ويحتمل أن تكون بمعنى حقا أي حقا ‏{‏سيكفرون بعبادتهم‏{‏ وقرأ أبو نهيك ‏{‏كلا سيكفرون‏{‏ بالتنوين‏.‏ وروي عنه مع ذلك ضم الكاف وفتحها‏.‏ قال المهدوي ‏{‏كلا‏{‏ ردع وزجر وتنبيه ورد لكلام متقدم، وقد تقع لتحقيق ما بعدها التنبيه عليه ‏{‏كلا إن الإنسان ليطغى‏}‏العلق‏:‏ 6‏]‏ فلا يوقف عليها على هذا ويوقف في المعنى الأول فان صلح فيها المعنيان جميعا جاز الوقف عليها والابتداء بها‏.‏ فمن نون ‏(‏كلا‏)‏ من قوله‏{‏كلا سيكفرون بعبادتهم‏{‏ مع فتح الكاف فهو مصدر كل ونصبه بفعل مضمر والمعنى كل هذا الرأي والاعتقاد كلا يعني اتخاذهم الآلهة ‏{‏ليكونوا لهم عزا‏{‏ فيوقف على هذا على ‏{‏عزا‏{‏ وعلى ‏{‏كلا‏{‏ وكذلك في قراءة الجماعة لأنها تصلح للرد لما قبلها والتحقيق لما بعدها ومن روى ضم الكاف مع التنوين فهو منصوب أيضا بفعل مضمر كأنه قال‏:‏ سيكفرون ‏{‏كلا سيكفرون بعبادتهم‏{‏ يعني الآلهة‏.‏

قلت‏:‏ فتحصل في ‏{‏كلا‏{‏ أربعة معان‏:‏ التحقيق وهو أن تكون بمعنى حقا والنفي والتنبيه وصلة للقسم ولا يوقف منها إلا على الأول وقال الكسائي ‏{‏لا‏{‏ تنفي فحسب و‏{‏كلا‏{‏ تنفي شيئا وتثبت شيئا فإذا قيل أكلت تمرا قلت كلا إني أكلت عسلا لا تمرا ففي هذه الكلمة نفي ما قبلها، وتحقق ما بعدها والضد يكون واحدا ويكون جمعا كالعدو والرسول وقيل وقع الضد موقع المصدر أي ويكونون عليهم عونا فلهذا لم يجمع وهذا في مقابلة قوله‏.‏ ‏{‏ليكونوا لهم عزا‏{‏ والعز مصدر فكذلك ما وقع في مقابلته ثم قيل الآية في عبدة الأصنام فأجري الأصنام مجرى من يعقل جريا على توهم الكفرة وقيل فيمن عبد المسيح أو الملائكة أو الجن أو الشياطين فالله تعالى أعلم‏.‏